El Ghibli - rivista online di letteratura della migrazione

عربية / english / español / franais



حق أن تحب

ghita

‮»...‬تلك الحقوق‮ ‬غير المعلنة،‮ ‬تلك الحقوق المنتهكة والمسكوت عنها‮. ‬تلك الحقوق التي حتى منظمة العفو الدولي‮ ‬لا تستطيع الاهتمام بها‮...«‬

في‮ ‬ضجة المطار وزحمته،‮ ‬كنا نحن الاثنين فقط،‮ ‬أما ما تبقى فليس أكثر من أصوات هامشية‮. ‬صرختُ‮: »‬إبق معي‮. ‬لا ترحل،‮ ‬أنا أحبك بكل كياني‮«. ‬لكن صوتي‮ ‬اصطدم بدرعي‮ ‬وانكسر في‮ ‬الصمت‮. ‬فجأة التفتَ‮ ‬فتوقف نبض قلبي‮. ‬نظرتُ‮ ‬اليه مندهشة‮. ‬ماذا لو كان قد سمع صرختي‮ ‬المنكسرة؟‮ ‬غير أن عينيه لم تريا إلا القناع الذي‮ ‬ارتسم على وجهي،‮ ‬واثقة وباسمة فيما كنتُ‮ ‬مستمرة بتوديعه بحركة آلية من‮ ‬يدي‮. ‬لم‮ ‬يعرف الإرتهان إلى قلبه،‮ ‬فقد ابتعد بخطوات سريعة وإلى الأبد‮. ‬بقيت ساكنة وحزينة أحدق ببوابة الخروج إلى الطائرة لمدة لا نهاية لها‮. ‬وقد تمرّدت‮ ‬عضلاتي‮ ‬المتوترة بألم أخرس فوجدتني‮ ‬أتحرر من قناعي‮ ‬الملتبس‮. ‬ كان القطار‮ ‬يسير ضاجاً‮ ‬على دروب‮ »‬أبروتسو‮« ‬وهو‮ ‬ينشد بإيقاع أليف‮ ‬يمنحني‮ ‬ثقة بالنفس‮. ‬أنظر من النافذة إلى السماء وهي‮ ‬تظلم فأشدُّ‮ ‬بقوة على الطلسم الذي‮ ‬يحتوي‮ ‬كلمات من الذكر الحكيم‮. ‬أستطيع أخيرا أن أنهي‮ ‬هذا الفصل المفتوح من حياتي،‮ ‬حبي‮ ‬الكبير،‮ ‬بعد ست سنين من الاحتضار وأدفنه في‮ ‬رماد الماضي‮. ‬ سأبدأ بكتابة فصلاً‮ ‬جديداً‮ ‬من حياتي،‮ ‬الآن،‮ ‬من على هذا القطار الذي‮ ‬يحملني‮ ‬إلى بيتي.‮ ‬
»حدث كل شيء في يوم بعيد منذ ستة أعوام، كنت عاشقة للغاية وقد أقنعني فرهاد للخروج معه في نزهة بالسيارة. كنتُ أعرف أن القانون في إيران يحرم على الفتى والفتاة الخروج مع بعض، إلّا اذا كانا شقيقين أو زوجين. أعرف أن العقوبة، اذا كشفوا أمرك، سبعون جَلْدة بالسوط، أعرفُ أيضاً أن الشباب والشابات، رغم كل المخاطر، كانوا يحبون بعضهم. رغبة قوية كانت تشدني اليه جعلتني أتشجع وأجرؤ على مخالفة ذلك القانون الجائر. »إن الله مع العشاق، ثم ان التجول بالسيارة أقل خطراً من المشي على الأقدام« كنتُ أوهم نفسي بسذاجة وأنا أجلس منفعلة الى جانب فرهاد. راح يقود السيارة دون أن يقول كلمة واحدة وشغل المذياع للتقليل من حدّة التوتر. بعد عشر دقائق بدأنا نسترخي على إيقاع الموسيقى التي كانت تجعل جو السيارة المحتقن أقل توتراً. مسك بيدي قائلاً بفرح: »شكراً على مجيئك«. كنتُ سعيدة معه رغم كل المخاطر. ضغطتُ على يده بصمت. كانت السيارة تسير مسترسلة فخورة بحملها الثمين في شوارع طهران، فقد كانت تحمل قلبين عاشقين.
في مكان ما لمحتُ سيارة »الباسداران« تجتازنا. توقفت أنفاسي لطرد النَّحس ثم عندما رأيتها تبتعد تنفستُ الصعداء. لكنني ذُهلت عندما رأيتها بعد قليل تبطئ تدريجياً في مسيرها. جمد دمي في عروقي، وما أن قلتُ: »لقد رأونا« حتى توجب علينا أن نتوقف ونحن نتبع الإشارات
التي كانت تأتينا من داخل سيارتهم. كانوا يسيرون إلى جانبنا. نزل إثنان منهم، رجل ملتحي وإمرأة ترتدي شادور أسود، وبقي ثالثهم في السيارة يتحدث بجهاز الإتصال اللاسلكي. طلبوا منا هوياتنا. لا متزوجان ولا قريبان! أنزلونا من السيارة وقادونا إلى الجهة الأخرى من الرصيف. جعلونا نضع أيدينا على الجدار وبدأوا بتفتيشنا. إهتم الرجل بفرهاد، وهي بي. كانت المرأة وهي تفتشني تشتمني بأبذأ العبارات. وصلت سيارة أخرى للباسداران فجرجروني، وقد امتلكني الخوف، إلى سيارتهم، أما فرهاد فقد بقي في السيارة الأخرى. استمر الكابوس في السجن حيث عوملتُ كالمومس. أخذوا بصمات أصابعي لأضافتي إلى ملفاتهم. كانت العقوبة سبعين جلدة وأربعة أشهر سجن على جريمة أنني أحببت دون إذن! تملكني قلق شديد، كنتُ أشعر بالإذلال، منكسرة ومُغْتَصَبة في أعماقي. كل شيء وصل إلى درجة من الخطورة بحيث لم أعد قادرة على البكاء ولا الصراخ. كنتُ خرساء. كل التوتر الذي تملكني أصبح قنبلة صامتة مدمرة في داخلي. كانت السياط تنزل إلى أخمص قدمي قتجلد بقوة روحي اليائسة التي لم تكن تعرف أين الفرار من كل تلك القساوة المجانية«.
دموع الانفعال الحارة كانت تبلل كل وجهي. وفيما أنا أبحثُ عن منديل نظرتُ حولي، كان القطار، لحسن الحظ، فارغاً تقريباً، والمسافرون القليلون ينامون. هبط الظلام في الخارج، وكانت الأنوار القادمة من القرى البعيدة، تظهر وتختفي في مربع نافذة القطار. أسندُ رأسي إلى المقعد وأُحدّق في الأنوار في محاولة للتذكّر. انه لأمر محزن ومرهق. ينبغي أن أهزم مقاومتي الداخلية، ولكي أبدأ من جديد ينبغي أن أستعيد الماضي للمرة الأخيرة. »لقد داسوا على كرامتي. كنتُ أشعر بالذنب وأكره نفسي لأنني أحببت. عندما سلموني لوالديّ رأيتهما منكسران ومخذولان وصغيران للغاية أمام الرجال الملتحين الذين كانوا يقدمون موعظتهم حول كيفية تربيتي. قبل ذلك كنت دائماً إبنتهم المطيعة. كانت رؤيةعيونهما الخائفة والمليئة بالدموع المحبوسة، يؤلمني أكثر من السياط. في ذلك اليوم كنت قد أكملت السنة الثامنة عشر من عمري.
لم أكن الأولى، فكثير من النساء مررن قبلي بنفس التجربة، ورغم ذلك واصلن الحياة. أما أنا فلم أكن أحتمل كل هذا الألم، فأُصِبت بانهيار شامل. ففي داخلي تكونت فجوة سوداء كانت تمتصني من الداخل يوماً بعد يوم. كانت رؤية سيارات الباسداران وهي تحاصر مدينة طهران، تؤلمني كثيراً فأغوص في ظلمتي دائماً أكثر لأنها تشعرني بالأمان. ويوماً بعد يوم نَمَتْ قوية في داخلي الرغبة بالموت والانشداد إلى تلك الظلمة المطلقة حيث لا أحد يستطيع أن يؤذيني. بعد أول محاولة انتحار فاشلة أرسلوني فوراً إلى إيطاليا بتأشيرة سياحية عند أخي، لكي أنسى، لكي أبتعد عن تلك السيارات اللعينة التي كانت تدفعني نجو الفجوة السوداء.
في إيطاليا بدأتُ أستعيد قواي ببطء وصعوبة. وعندما إنتهت الشهور الثلاثة لمدة التأشيرة السياحية، رفضتُ الرجوع إلى إيران. كانت تجتاحني نوبة من الفزع لمجرد التفكير في ذلك. ولأنه لم يكن من الممكن تجديد تلك التأشيرة، فقد تبعتُ نصيحة أخي وقدّمت طلباً من أجل الحصول على اللجوء السياسي. وفي اليوم الذي كان عليّ الحضور لمقابلة اللجنة التي تقرر منح اللجوء السياسي، أُصِبْتُ بأزمة أخرى. ولكني رغم ذلك استطعت الحضور في الوقت المحدد بفضل أخي وبفضل الحبوب المهدئة.
عندما سألوني عن الأسباب التي دفعتني لتقديم طلب اللجوء السياسي، لم أرو لهم قصتي. لم أتحدث عن السياط التي تركت جروحها على قدمي وفجوة سوداء في روحي. لم أحدثهم عن نوبات الفزع عندما كنت أرى سيارات الباسداران الخضراء. ولا عن حبي المهان. لأن هذا لم يكن تعذيباً. لقد كان بكل بساطة النتائج التي ترتبت على عقوبة قانونية للدولة الإيرانية. ولم أكن مُتابعة سياسياً، بل فتاة مسكينة جرأت أن تحب في بلد لا يسمح بالحب. كان حباً لا يخضع للطاعة ولا لترخيص من الدولة تحت أي شكل من الأشكال، بما فيها زواج المتعة. فتاة لم تمتلك قوة الصمود أمام تبعات حبها وتمردها.
ولكني حدثتهم عن أخي. فوضعه يطابق الشروط. وقد قام بنشاط سياسي في ايطاليا ضد نظام المّلا، وهو منذ سنين ضمن قائمة النظام السوداء. وبسببه جاءت السلطات في ايران لزيارتنا. فكّرتُ أن هذا هو أفضل المسوغات للحصول على موافقة اللجنة.
لم يوافقوا على طلب اللجوء، لم أستطع اقناعهم بأنني مُتابَعة، ولكني تمكنت من البقاء في ايطاليا بشكل آخر من أشكال الإقامة.
لم أشأ أن أعرف أي شيء عن فرهاد، فقد محيته من ذهني. كان مجرد سماع اسمه يسبب لي صداع لا يطاق ويشلّني لأيام كاملة. بعد سنين وبمساعدة المحلل النفسي، حاولت أن أتذكّر. ولكن رغم التحسن لم أستطع أن أتجاوز نهائياً خوفي من الحياة. كانت قصة حبي الأول التي انقطعت بذلك الشكل العنيف، قد جعلت مني روح شارد جافاه السلام غير قادر على الحب أو أن يبدأ«.
توقف القطار ونزل المسافرون فبقيت وحدي وكأني في قطار الحياة. وللحظة تملكني الفزع. فالسفر لوحدي يجعلني أرتعب. أحاول أن أسيطر على ايقاع تنفّسي وأسترخي. أعرف جيداً أنني يجب أن أبحث في داخلي عن الشجاعة والرغبة في الحياة. ينطلق القطار مواصلاً رحلته ببطء، وعلى ايقاع الأنغام التي يصدرها احتكاك الحديد، أجد الأمان المفقود فأسترجع خيط أفكاري المقطوع.
»في الأسبوع الماضي وصلتني مكالمة هاتفية من فرهاد. لم أفهم، في البداية، كلماته التي كانت تداهمني دون توقف. فقط بعد أن أغلقت الهاتف أدركت الأمور. كان في أوربا ويريد لقائي ليقول لي ما لم يقله من قبل، ويضع حداً لحالة الإحتضار قبل أن يرجع إلى إيران. كنتُ بحاجة إلى كل شجاعتي لمواجهته عند الوصول. كنت متأثرة ومنفعلة أشد الإنفعال بعد سبع سنوات من اللاحياة. إن الإرتباك وجذوةَ حبٍ قديمٍ أيقظا الحياة في داخلي.
بكينا لساعات، متعانقين، على حبنا المسحوق قبل أن يتفتح. واستعدنا معاً تلك التجربة المؤلمة بعد أن تحررنا من الظلال والظلام. عفونا عن بعضنا لذنوب لم تكن لنا واستطعنا، أخيراً، أن ندفن بسلام حبنا. رافقته الى المطار يملأني الحنين، ولكني كنت مدركة من استحالة أن يكون لنا مستقبلاً مع بعض«.
مفتش التذاكر يقطع خيط أفكاري: »التذاكر، رجاءً«، يسألني المفتش بلطف.
أناوله التذكرة مواصلة ابحاري في أبعاد نفسي. كانت أفكاري تحلّق معه على الطائرة التي تحمله بعيداً في وداع هادئ. كان يطير معه على تلك الطائرة وإلى الأبد جانب مني، ذلك الجانب بفجوته السوداء.
»ولكن هذه التذكرة غير مختومة« قال مفتش التذاكر بنظرة متسائلة. أبقى متسائلة لا أعرف كيف أبرر الأمر. من الواضح ان ختم التذكرة لم يكن من الأمور التي تجد حيزاً ضمن أفكاري المزدحمة.
»يتوجب أن أحرر لك غرامة« قال بقلق ربما آملاً أن أسوق له عذراً لذلك.
أنظر اليه وأحاول أن أجد عذراً ولكن الخاطر الوحيد الذي استحوذ على أفكاري هو الرغبة في أن أبدإ حياتي من جديد. أحاول أن أُطَمْئن المفتش، أتناول حقيبتي اليدوية وأقول له: »أرجو أن تجلب لي حظاً سعيداً«.

ghita

غيتا، إسم مستعار اتخذته الكاتبة لأسباب أمنية. وهي تعيش في ايطاليا وقدتكيفت على الحياة، لكن قلبها بقي في بلدها إيران. إن إيطاليا وإيران بلدان بعيدان عن بعضهما، ولكن غيتا تشعر بهما قريبان الى نفسها وهي تحاول أن تجمع بينهما في قصصها التي تكرسها لنساء إيران اللواتي خنق أصواتهن النظام الأصولي.

Home | Archivio | Cerca

Internazionale

 

Archivio

Anno 2, Numero 10
December 2005

 

 

©2003-2014 El-Ghibli.org
Chi siamo | Contatti | Archivio | Notizie | Links